رمضان من الشهور التي يحرص فيها السائحون في المغرب على زيارة مدينة مراكش، فهي عادة في هذا الشهر مدينة تزخر بما هو مختزن فيها من فنون روحية ومادية، ومركز المدينة ينقل لزائرها ماضي المدينة وتأريخها القديم، كما تنقل الساحة المسماة بـ 'ساحة الفناء' وجامعها المسمى بالاسم ذاته، فلسفة الفناء والبقاء، التي آمن بها أهل هذه المدينة منذ تأسيسها في عام 1070 م على أيدي حكامها المرابطين، الذين جعلوها عاصمة حكمهم، وكان من أبرز سلاطينهم في وقت التأسيس السلطان يوسف بن تاشفين ( 1061- 1107)م وقد حرص الكاتب والشاعر عبد الرفيع جواهري في كتابه 'جامع الفنا... الصورة وظلالها' على نقل صورة هذه المدينة من خلال ساحة بهجتها: ساحة الفنا.. كما يقولها المغاربة بالدارجة، أو ساحة الفناء، كما هو اسمها في اللغة العربية الفصحى، التي تزدحم كل ليلة رمضانية عقب الفطور بمروضي الأفاعي والقرود، ومربي السلاحف، والأرانب، والعضيات، والطيور الجارحة، وطيور الحب الملونة، وقصاصي الحلقات من رواة القصص الشفهي، وبائعي الأطعمة الشعبية من كل لون وصنف.
ينقل لنا الكاتب عبر صفحات كتابه عن هذه الساحة، التي صارت جزءا من التراث الإنساني الشفهي حسبما أفادت به شهادة صادرة عن اليونسكو عام 1996، وبالتالي صارت محمية ثقافية عالمية، تخضع لكافة قوانين حماية التراث الإنساني، الكثير من حكايات حكائين هذه المدينة ورواتها .
ساحة الفناء تغدو بعد الفطور مكانا يلقي الناس فيه أعباء يومهم، ليتقاسموا حكايات ما واجهوه أثناء صيامهم، وأثناء عملهم، والساحة تذكرنا بساحة الرومان في ايطاليا التي تسمى بالفوروم وساحة الطيران في بغداد، وساحة أم البروم في مدينة البصرة، ومنطقة ضريح السيدة زينب عليها السلام في مصر، والمميز فيها تحلق الناس في حلقات كبيرة، ليستمعوا إلى روايات القصاصين الشعبيين والرواة، الشفهيين، الذين يروون في هذا الشهر الفضيل كرامات المسلمين الأوائل الذين جاؤوا إلى هذه البلاد لتعليم الناس أصول الدين الإسلامي، وترديد الأذكار، والأمداح النبوية، وقصائد الملحون المغربي، التي أغلبها من قصائد التوسلات، التي يراد بها التوسل بالخالق تعالى، أن يغفر لعباده ذنوبهم في هذا الشهر المبارك، وحكايات عن قبور الشهداء من المسلمين الأوائل في هذه الأنحاء، وحكاية روايات أسطورية عن وفد من الامازيغ 'سكان المغرب الأصليين، الذين أطلق عليهم بعد ذلك تسمية برابرة' وقد ذهب ذلك الوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته النبوية الشريفة، وأعلن ذلك الوفد إسلامه، واخذ تعليمات الرسول الكريم، وما انزل عليه من آيات القرآن الكريم، وعاد إلى بلاد المغرب لينتشر أفراد الوفد إلى مناطق جبال أطلس ولينقلوا رسالة الإسلام إلى قبائل الامازيغ في هذه البلاد، فدخلوا فيه أفواجا، وهي بالطبع قصة أسطورية لم يتحقق من صحتها، ولكن المخيال الشعبي يستخدم هذا النوع من القصص لخلق حالة من التوازن النفسي، لتقبل رسالة الإسلام السماوية التي حملها لهم المسلمون الأوائل، وبذلوا في سبيل نشرها في هذه الربوع، الغالي والرخيص، وبذل بعضهم أرواحهم لتحقيق هذا الهدف النبيل.
وفي هذه الساحة تأسست أول فرقة مسرح الناس، والفرقة التراثية الشهيرة جيل الجيلالة ( التي اشتهرت بترديد الموشحات الأندلسية، وقراءة التوسلات والأذكار، والملحون المغربي) وكذلك شهدت تأسيس فرقة ما تسمى بـ (ناس الغيوان) التي اشتهرت أيضا بالموشحات، وفن الملحون التراثي الشهير، الذي يؤديه مؤدون يرددون خلاله مناقب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وتوسلاتهم بالخالق تعالى لتقبل صلاتهم، وصومهم وأن يغفر ذنوبهم، وعلى الرغم من أن الساحة محطة واسعة لالتقاء أهل مراكش، فهي أيضا قبلة كل غريب وافد لزيارة هذه المدينة، يقول جواهري عن ساحة الفناء: 'ساحة الفناء حيث يفنى الواقع في سحر الخرافة، هنا يفتك التخييل بعتو الأشياء. لا معنى للملاحم والغزوات والأبطال إلا ما يغدقه عليهم لسان الراوي. أعطني لا وعيك أعطك دهشة السرد وأعاجيب القص .. هكذا تقول قسمات الرجل الذي يتوسط الحلقة'. وتتم رواية الحكايات من خلال راو وسط حلقة من الجمهور يتحلقون حوله ويسمعون ما يرويه لهم، ويتفاعلون معه من خلال التعليق أو المشاركة في الروي، أو إضافة بعض الأحداث التي غفل عنها حكاء الحلقة، وهذا يعتبر تمرينا لولادة حكائين جدد من خلال الجمهور المتحلق حول الحكاء الشيخ، الذي سيفنى، أو يمنعه المرض من القدوم لحكاية حكاياته في المستقبل.
وعن الأعمال الأدبية الخالدة التي كتبها كتاب أجانب عن هذه الساحة يقول الكاتب: 'والآن أنت تغادر هذا الفناء المصر على البقاء ستشعر وكأنك خارج بين الصلب والترائب: آنئذ ستفهم لماذا كتب كانيتي الحائز على جائزة نوبل في الآداب كتابه ( أصوات مراكش) وستلتذ حقا برواية ( المقبرة) لخوان غويتيسلو' والكاتب غويتيسلو، قاص وروائي إسباني قرر العيش في هذه المدينة رافضا العودة إلى اسبانيا، حتى بعد أن تخلى الجنرال فرانكو عن الحكم، الذي كان نظامه الدكتاتوري سببا في هجرة هذا الكاتب من وطنه إلى هذه المدينة المغربية، في السبعينيات من القرن الماضي، إذ يكتب الكاتب الاسباني غويتيسلو واصفا ما يدور في ساحة جامع الفناء: 'وعلى نور مصابيح الغاز تراءى لي حضور كاتب ( كاركانتويا) و( خوان رويس) و( تشاوستر) و( أبي زيد) و( الحريري) وكذا عدد كبير من الدراويش، أما صورة ذلك البليد الذي يتبادل القبل مع هاتفه الجوال، فرغم بذاءتها لا تشوه شفافية هذا الفضاء المثالي ولا تبخسه.. 'ويحدثنا الكاتب عن الراوي في هذه الحلقات، وصراعه مع نفسه بحثا عن الكمال فيما يقدمه لجمهوره: 'أي صراع يخوضه هذا الكائن الراوي أو السارد من أجل أن يبني معمار الحلقة؟ كيف يخلق دائرة حية تتنفس، تصغي، وتشاركه لذة الحكي، تصفق وتصلي على النبي؟ وكيف يمارس عليها غواية تستطيع أن تنتزع منها بضعة قروش تستقر في قعر طاقيته المراكشية؟'. ويروي احد رواة هذه الساحة بعد أن يرسم على إسفلت الساحة قبرا بالطباشير ثم يشرع في الحديث عن أهوال القبر وكيف تخاطب الروح الجسد' ثم يضع إلى جانب ذلك الرسم سطلا من الماء، ويشرع في تعليم رواد الحلقة قواعد الطهارة الصغرى، ويعلمهم قواعد الطهارة الكبرى والتيمم 'وهناك حلقة أخرى يسميها المشاهدون ( حلقة الجلالة) يؤدي فيها الراوي آليات ما بعد الموت التي تجري على الميت منذ خروج الروح، مرورا بغسل الجثة والجنازة، وإقامة الصلاة عليها، ورحلة الدفن وصولا إلى مساءلة الميت عن سلوكه في الحياة الدنيا' حيث يردد الجمهور بعد كل مقطع يقوله الراوي في هذه الحلقة: محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم).
وتروى في حلقات ساحة الفناء قصص 'ألف ليلة وليلة'، و' سيرة عنترة بن شداد'، وسير ذات الهمة والإسماعيلية والحمزية والأزلية والفيروزية 'كما ينقلك الكاتب لتتعرف على شخصيات غريبة، أغلبها تمتهن في الساحة مهنا عجيبة: كطبيب الحشرات وصاحب الحمام ( صديق الحمام) و( الصاروخ) المعني بشؤون قلوب الفتيات وحظوظهن في الزواج والطلاق، ونصائحه للزوجات ليضمن قلوب أزواجهن طول الدهر، ورواة السير والأحاديث النبوية الشريفة'.
'جامع الفنا.. الصورة وظلالها' من الكتب الفولكلورية المغربية القليلة، التي تضعك أمام صورة بانورامية، لمفاهيم شعبية، استعاضت عن انغلاقها داخل أسوار مدينتها العريقة، خلال ألف عام من السنوات وحلقت بخيال بعض مبدعيها من أولئك الذين كانوا يعوضون الناس لوازم وأجهزة حديثة جاءت لنا من الغرب منذ بدايات القرن الماضي: كالكتاب المطبوع، وما يبثه المذياع علينا من قصص وسير وحكايات، وما ينقله التلفزيون من صور الفلكلور الإنساني وثقافة الشعوب المرئية بالصوت والصورة.
كاتب وصحافي عراقي يقيم في المغرب