'قهوة سادة' ثمرة علاقة عمرها ربع قرن بين الشاعر والمقهى
مايا الحاج
من يعرف زاهي وهبي ويسمع حديثه ويقرأ شعره ويتابع حواراته لا يستغرب فكرة تقديمه كتاباً يرصد أحوال المقهى البيروتي بنظرة إنسانية حميمة تدلّ على قوّة العلاقة ومتانتها بين الكاتب (العاشق) والمقهى (المعشوق).
وهذه العلاقة امتدّت على مدى ربع قرن إلى الآن وأثمرت كتاباً درس فيه زاهي وهبي بأسلوب شعري رشيق وبعيد عن التوثيق والتقرير خطب المقاهي البيروتية وشؤونها تحت عنوان ملائم لشكل الكتاب ومضمونه «قهوة سادة».
وإنّ الشاهدة الأقرب والأبرز لماهية الصلة التي تربط الشاعر بالمقهى، هي الزوجة التي كتبت، بقلب الغيّورة المحبّة، مقدّمة عن تعلّق زوجها ب«غيرها» موضحة تأثير علاقة زوجها بالمقهى عليها كزوجة وإنسانة قائلة: «مع مرور الأيام والسنوات، وبقدر ما أخذ الحبّ بيننا بُعداً أكثر عمقاً وإنسانيةً بقدر ما نضجت نظرتي للحياة والأمكنة وبات فهمي للمقهى أبعد من كونه مجرّد مساحة للتلاقي والتسلية إلى كونه فسحة للحياة الإنسانية المدينية بفسيفسائها وتنوّعها واختلافاتها، ومكاناً للتواصل المدني يختصر مشهد الحياة اليومية».
إلاّ أنّ العنوان الذي اختارته الإعلامية رابعة الزيّات لمقدّمتها التي تصف بصدق وعفوية ودقّة علاقة زوجها الشاعر- زاهي وهبي- بالمكان الملهم له- المقهى- وكذلك نظرتها كزوجة إلى تلك العلاقة الحميمة لم يأتِ اعتباطياً، بل جاء مثيراً ومنسجماً وحكايتها الشخصية مع المقهى الذي اتخذته «غريمة»ً لها قبل أن تتمكّن من فهم السحر الكامن فيه. ففي مقدمة الكتاب «غريمتي... المقهى» تجرأت رابعة في إعلان غيرتها من المقهى الذي كان يُنافسها ويغيظها ويُشعل نار غيرتها. واعترفت بأنّ علاقتها بالمقهى كانت «فاترة وتشوبها اللامبالاة والنظرة السطحية» وبأنّ تعلّق زوجها بالمقهى دفعها في بعض الأحيان إلى «أنسنة» المكان و«تأنيثه» والتعامل معه على أساس أنّه المرأة- المنافسة التي تكنّ لها الغيرة والحسد والرغبة في اكتشاف سرّ إدمان زوجها عليها.
يُبرز «قهوة سادة» عبر نظرية نقدية- تحليلية أحوال المقهى في المدينة التي يُسمّيها زاهي وهبي «مسقط القلب»، بيروت، انطلاقاً من «معايشة يومية حثيثة لهذا المقهى على امتداد ربع قرن من «المياومة» في مقاهي المدينة المطلّة على شارعها المكتظّ دائماً بأحداث وتحولات، العامر بأنواع وضروب من النقاشات والسجالات التي تتجلّى بوجوه مختلفة تبدأ بجلسة حوار إلى فنجان قهوة صباحي على رصيف شارع الحمرا، ولا تنتهي بمظاهرة مليونية في ساحة الشهداء».
ويترك زاهي وهبي الفسحة الأرحب من دراسته هذه لشارع الحمرا الذي وصفه ب«الشريان الأبهر في قلب المدينة» ومقاهيه التي رسمت في ذاكرته كما في الذاكرة اللبنانية جمعاء أجمل الصور وأروعها عن «المقهى» من خلال عدد كبير من مقاهي الأرصفة التي أٌقفل عدد كبير منها مثل: «الهورس شو» و«الويمبي» و«المودكا»...
ويصف علاقته بهذا الشارع ب«الإدمان» فيقول إنّه لم يغب يوماً عن رصيفه ولم يتخلّف عن فنجان قهوة إلاّ لسفر أو مرض... ويُضيف: «هكذا أنا مدمن لهذا الشارع، عاشق لصباحاته ومساءاته».
إنّ المقهى بالنسبة إلى زاهي وهبي ليس مجرّد مكان لاحتساء القهوة أو الكتابة أو الراحة أو اللقاء، وإنما هو يتجاوز هذه الأمور ليصبح مساحة خاصة للحريّة وأكثر من ذلك «مساحة الحريّة الأرحب»، حيث لا حسيب ولا رقيب وحيث تُبسط الآراء والمواقف على الطاولات التي تتسّع لكلّ الأضداد والتناقضات. ويذكر وهبي كيف اتسّع مقهى «الهورس شو» يوماً لعرض مسرحية روجيه عسّاف «مجدلون» حين ضاقت بها خشبة المسرح بعدما مُنعت من العرض بقرار صادر عن الأمن العام اللبناني.
وبالرغم من تركيز زاهي وهبي على مقاهٍ معينة دون غيرها مثل «الروضة» أو مقاهي الحمرا إلاّ أنّه لم يتجاهل مقاهي بيروت الأخرى مثل «الداون تاون» والأشرفية وفردان والضواحي لتكريس فكرة الإختلاف في الأنمطة الفكرية والأمزجة الثقافية بين مقهى وآخر، مع التمييز بين المقاهي ذات الطابع الثقافي الأدبي والأخرى ذات الطابع السياحي الغرائزي.