رشا الأطرش
في مثل هذه الأيام، افتح الإنترنت واغطس في بحر الشبكة. المواقع الاجتماعية قماشة مفتوحة. بيضاء تتسع لكل لون ونبرة، حتى لا يعود للبياض متّسع. مخطوطة جديدة للتعبير المشترك وأدواته، فردياً وجماعياً في آن، مدجّجاً بمشاعر تختارها. أنُقر واترك نفسك. ستقفل روابط ممجوجة، مؤدلجة، وأخرى لا تخاطبك كفاية. لكن الجيّد سيربطك إلى شاشة الكومبيوتر، سعيداً، منتشياً... مدمناً يومياً ربما.
منذ تونس، وخلال مصر، ما عادت مواقع الشبكات الاجتماعية للتواصل والاتصال فحسب. ما عادت فقط تعبوية، أهلية، تنظيمية. كأنما باتت أكبر من ساحة، وأصغر من غرفة جلوس لتبادل فيديو الهواتف، والصور الفوتوغرافية تُنطِقها تعليقاتنا. صارت أكثر من خلية نحل يدردش. جمهور يطنّ ويئزّ ويزّن، آراء وهواجس وأمنيات. هي هذا كله. الثقافة. إن شئت اعتبرها لوحة. ثمة من يرسم عليها بيده، يكتب اسمه أو يخربش رمزاً. وثمة من يقص، من مكان بعيد، ويلصق هنا. كانفا افتراضية جماعية. تشكيل بـ «الكولاج». لا تهمّ النوعية. كل مواطن، ههنا، فنان ولديه ما يقوله. المهم هو تلك الحلاوة الفورية: الثورة. منسكبة في الحلق، حارّة في العروق، فوّارة من القلب إلى الرأس وبالعكس. «واحشانا من زمان» كما يعبّر صديق مصري.
أغنيات، فيديو كليب، رسوم كاريكاتور، قصائد ونصوص... وكل «منشور» مقدّر لفعل الحَجَر في البِرْكة. السخرية نقاش، واللؤم جدل مضمر، والاستحسان بالإبهام المرفوع ضوء أخضر. لا «عمل» يمر غير ملاحَظ. والوحي من غضب جميل في شوارع نامت عقوداً طويلة. الغضب نفسه ارتجال فني، وكيفما وضعت الكاميرا التقطت له تحفة. فوقه، تحته، بداخله. كيفما وصفته تخرج رَنّة وسيرة قافية.
أحمد فؤاد نجم، شعراً مكتوباً، أو مُغنّىً مع الشيخ إمام عيسى، يعود كما لو أنه قَطْفُ البارحة. يحتل بلا منازع تقريباً. ودرويش والسيّاب؟ ألأنها مِصر؟ لكن عبد الرحمن الأبنودي مصري أيضاً. نجم ورفيقه، شهبان في حلكة ذاكرة ونضال. ما قبل ثورة يوليو، قلب الثورة، وما بعدها. كُرّما واضطهدا، عُشقا وعُذّبا، بحسب المراحل والأنظمة «الوطنية» المتعاقبة. حتى اليوم، لا يسهل إيجاد شرائط كاسيت أو أقراص «سي دي» لهما في أسواق مصر.
«إحنا ملح الأرض وتراب العجين»... يُستحضر نجم على فايسبوك، «كل صنّاع الوجود والمبدعين، عِدّ موج البحر ونجوم الليالي، عِدّ رمل الأرض وأكثر من السنين». ثنائي «شيّد قصورك ع المزارع»، في حركة مصر، يضع ثلث الذائقة تحت طربوش نجم، والثلث الثاني في جيب جلابيّة «العم الشيخ»، والثلث الثالث يتشاركه بقية شعراء الثورة. هكذا هي الأمور على فايسبوك، ولا تنفع كثرة التحليل.
دائرة الأغنيات أوسع. محمد منير يذيب صوته في جدران «بيوت السويس، يا بيوت مدينتي، استشهد تحتك وتعيشي إنتِ». بالأبيض والأسود تغني وردة الجزائرية «حلوة بلادي السمرا». أما رشيد طه فيهتف أكثر مما يغنّي في ذلك الحفل الحي: «حاسبوهم، محوهم، الحفارين، الغدارين، الفسّادين..».
من وردة الستينات إلى تسعينات «الراي»، أي مزاج على الإطلاق ستجده خلال جلساتك اليومية على فايسبوك. هذه أيام مباركة، والكل يداوم أكثر مما يفعل في الجامعة والوظيفة. أي شجن، أي التباس ذكي مُلهِم، أي فكرة – قفشة، أي فن.. سَمِّه وستجده. كله يصحو، كله ينشط. شاشتك وفي وعيك. نهارك وليلك. الحدث صار نشيدك، خبز يومياتك وسحورها. أنت الذي، منذ ولدت، لم تشهد سوى حروب أهلية. انتصارات(نا) على المحتلّ والمستعمر صارت كحكايات الجدّات. التاريخ يُصنع أمامك على التلفزيون. في مصر تنزل وتعجنه في شارع. تلوي ذراعه.
الصورة تحكم. الصورة سيّدة حيز يتسع بحسب طلبك، امتداد ألياف وأبصار وأسماع، عبر البيوت والحدود والوقت.
صورة فوتوغرافية تقول إن تحركات المصريين سلمية، وحاشدة، والمندسّون يندسّون، والمخربون يشوهون، هكذا هم المخرّبون. صورةٌ تقول إن «الجيشي» في الدبابة يبتسم للناس. المجنّد تقبّله امرأة مسنّة. نشرتها إحدى الصحف. قرّب العدسة: في عينيه دموع! ستنشرها على الفايسبوك وستحرص على أن تكون النسخة المكبّرة بالـ «زوم». عيناه الدامعتان لك الآن. صورتهما الآن نضالك.
تركيب ومونتاج
صور الفيديو. التركيب هنا مسموح بل مرحّب به، على عكس وسائل الإعلام (المحترم منها على الأقل). بعضها يوقظ في النفوس زوابع صغيرة. كليب ركّبه شاب يتمرّن (فينا) على المونتاج. لكن، من يشغل باله ههنا بالاحتراف؟ يجمع تسجيلات التلفزيونات العربية والغربية، ثم يسقط أغنية الروك اللطيف «في قلب النار» (Into the Fire) لفريق «13 سينسز». بين لازمتي «هيا، ضع يديك في النار»، يصرخ مصري كهل تموّهت ملامحه بدموعه، ولحيته النابتة، وعينيه اللتين جافاهما النوم. بالإنكليزية يصيح: «ليس عندي أي طعام، ليس عندي شيء، أنا وأولادي، سنموت هنا اليوم».
يختار صاحب الفيديو عنوان لوحته بالإنكليزية أيضاً، «قُم وخُذ ما هو لك». يقصد أن يحكي مع الشبان العابرين على الجسر الطويل (خفافاً؟ مارسيل خليفة؟ يعبر هو أيضاً في رأسك؟). رجال الأمن يتراجعون كالأخيلة. «قم وخذ ما هو لك». هذا يتقيأ متأثراً بالغاز المسيل للدموع. اعتقالات وهراوات
وحجارة.شاب ينظرفي عين الكاميرا، وكأنه يسمع موسيقى الروك التي تسمعها أنت .لفيديو المعنون «أرجَل بنت في مصر» مصوّر بالهاتف الخليوي. لا ادعاء فنياً فيه. هي فقط «بنت بمليون راجل»، محجّبة بالزهري والأبيض الزاهيين. تهتف ويردّون من ورائها. شوارب تهتز هاتفة من بعدها. كأنها كمالة «الهيب هوب»، بل تذكّرك بـ «ضد الحكومة» التي صادفتها قبل قليل، في مكان ما على الموقع.
يقول شاب «الراب»: «ضد الحكومة، ضد البلطجة والظلم، ضد الحكومة، ضد الحاكم والحكم... لو حد زقّك مستنّي مين يجيبلك حقّك، ماسكك وداقّك، وبقالو 30 سنة بيدقّك، عَمّال يسكّك وانت ساكت ومخيّط بُقّك».
على شريط الأخبار أن المتظاهرين مستمرون حتى تتحقق المطالب. ستنشر «أرجَل بنت في مصر» على صفحتك، وستكتب تعليقاً: تجاوزنا هذه المرحلة، هي نقطة اللاعودة.