عمّان - علي عبد الأمير
لا يتردد التشكيلي العراقي يحيى الشيخ ابن جيل ستينات القرن الماضي، جيل الصخب الفكري والإنساني والمجدد لكثير من الأساليب، ومنها أساليب التشكيل العراقي التي بدأت حينها بالافتراق عن تجربة الرواد وما بعدهم، عن الكشف عن سر وجوده قبل أيام في عمّان. لقد تعب من سيرة امتدت لنحو 35 عاماً في المنافي: درس الماجستير في يوغوسلافيا السابقة 1970 ثم الدكتوراه في الاتحاد السوفياتي السابق 1984 ثم استقر لفترة في سورية لصعوبة عودته إلى بلاده التي كان يحكمها نظام صدام حسين الذي كان احد ابرز معارضيه، لينتقل إلى ليبيا للعمل في إحدى جامعاتها، ثم إلى عمّان موقتاً ومنها إلى النرويج لاجئاً سياسياً، ومنها إلى تونس للعمل الأكاديمي مرة أخرى، قبل أن يقرر الاستقرار في عمّان التي تضم مجموعة كبيرة من مثقفي بلاده وتحديداً فنانيها التشكيليين.
هو ابن مدينة العمارة (جنوب العراق) المولود فيها عام 1945، وهو ابن الموروث المندائي، لا لمجرد الامتياز الديني، بل بما منحه ذلك الموروث من طاقة فكرية تبعثها عناصر تلك البيئة الجغرافية والإنسانية: الماء، القصب، شجرة الياس، جريد النخل والبردي. هي عناصر كوّنت مؤثرات مزاجه الفني الأول مثل تضاريس الأرض، التراب المحروث، الصدأ، الخشب وتشققاته، ثم ما لبثت هذه المؤثرات الطبيعية أن صارت عناصر أساسية في بناء لوحته وسياقها اللوني.
في معرضه « هكذا سميت الأشجار» الذي أقامه في النرويج كأنه عاد وفياً للقاء عناصر بيئته الأولى، مستحضراً كل ما يعني الشجر، ولكن في سياق من «أنسنة الطبيعة»، فورقة شجرة يمكن أن تصير غيمة.
انه يكتب في يوميات المرسم: «بعد مجموعتي» رسائل إلى الورد « و « ذاكرة العشب « المكرستين للعشب وما حمل، اللتين انشغلت بهما طيلة عشرة أعوام ( 89-99 ) بعدها لم ألطخ يديي بحبر الغرافيك، فمنذ أن حط بي الرحال في شمال الأرض همت بين ألياف الصوف لبدء لوحات منتشياً بدفئها وشفافية معناها، حتى تراكمت في مرسمي كما تتراكم لحافات البدو فوق بعضها بعضاً فضاق بها صدري قبل أن يضيق بها المكان، فلملمت وشائج الصوف وركنتها جانباً ... حدث ذلك قبل أكثر من عام. لقد استنفدت المادة خزينها وكرهت تكرار نفسي». !
وفي الحقيقة أن في التجريد التشكيلي العراقي انحيازاً كاملاً للحداثة الغربية، إلا أن الشيخ يصر على انه ليس تجريدياً، ربما سوريالياً بعض الشيء، سوريالية الحلم تحديداً، بل إن الحداثة ذاتها هي موقف تأويلي، فيما الحياة موقف شخصي إزاء الطبيعة وتجليات عناصرها التي سترافق الشيخ عميقاً في عمله، لاسيما أن فكرته حتى منتصف سبعينات القرن الماضي كانت في الانتصار لحلم الإنسان بالانعتاق، وفي التعبير الفني عن ذلك الانتصار، وتبدو مجموعة أعماله الغرافيكية أو المنضوية تحت شكل «البوستر السياسي» تجسيداً عميقاص لتلك المرحلة من سيرته الإنسانية والفكرية.
وبقدر ما يبدو مفهومه حيال الفن والحياة قد تعرض إلى تبدلات كثيرة وإن ضمن سيرة متواصلة، إلا أن لوحته ليست لها سيرة، ويبدو أن انتقالاته في الأماكن، لعبت دوراً كبيراً في عدم وجود سيرة متواصلة للوحته، فكان يرى إلى الطبيعة لذاتها، لا يلوي عنق عناصرها كي تبدو متوافقة مع الأسلوب، ومن هنا امتاز عن الآخرين، فهو لم يثق كثيراً بما رسخته تجارب سبقته في الفن العراقي، بل عاد إلى أفكار الميثولوجيا الرافدينية ليس ليأخذ منها، بل ليوطد بحسب وعيه الشخصي، طريقة تعاطي الفنان العراقـي القـديـم مع عناصر الطبيعة.
وكانت انتقالاته المتغايرة اجتماعياً وفكرياً، انتجت فيه حساسيات متغايرة لجهة التعاطي مع العمل الفني، فهو انتج أعمالاً فنية هي مرايا وجوده الشخصي، وتعكس وعيه الإنساني والفكري، وانتجها في ظروف تكاد تكون قاتلة للعمل الفني حيث لا معارض حقيقية، ولا متلقين، في ظل غياب تام لمناخ ثقافي مؤهل للتعاطي مع العمل الفني. وعلى رغم هذا الانقطاع الذي تصدى له الشيخ راح يركز كثيراً على عمله في اللوحة بعيداً من فقدانه أجواء تذوقها وتحولها إلى معطى ثقافي، فكم مرة تهدم مرسمه، وكم مرة تهدمت قناعات رافقت أجواء المرسم ذاك، وفي كل مرة يعود إلى الرسم من دون أن ترافقه أي مرجعيات، فخبراته اليومية هي مرجعياته، خبرة المرسم التي صقلت ونضجت.
من هنا لا حنين لديه للماضي، ومن ضمن ذلك لبلاده، لا عواطف لديه حيال العودة، بل يتعامل مع وجوده انطلاقاً من مكانه الشخصيلحالي، يترافق ذلك مع قسوة صريحة للوقائع دفعته نحو غموض في اللوحة، غموض في التعبير، غير أن أملاً يراوده باستعادة الوضع الاجتماعي الهادئ بما سينعكس على تعاطيه مرة أخرى مع التلقي وقاعات العرض، تلك الأجواء التي افتقدها منذ سنوات، بسبب هجرات أوصلته إلى حدود اليأس الذي قابله بالاندفاع بأقصى ما أمكنه إلى حرية تمثلت بخروجه بعيداً من سجن القناعات السابقة.
هو اليوم في عمّان يبحث عن مسكن منفتح على مرسم، أو العكس يصح أيضاً، على أمل الدخول إلى مناخ حيوي جديد، مناخ التجارب الثقافية والإنسانية، مناخ الأصدقاء، لاسيما انه لطالما كان يزرع وحيداً، يحصد ويأكل وحيداً، وفي هذا قسوة، إقصاء للحياة، التي وإن بدت قاسية عليه، إلا انه قسا عليها أيضاً، حين لم يسمح لها بأن تهزأ منه.