جملته القصيرة والنضرة هنا، وكذلك مهارته في توليف أحداث الرواية كأننا أمام فيلم سينمائي. ما الذي يجعل إذاً من «دروز بلغراد ــ حكاية حنا يعقوب» (الآداب/ المركز الثقافي العربي)، دعسة ناقصة في مسار الكاتب اللبناني الغزير؟
حسين بن حمزة
في مستهلّ روايته «دروز بلغراد ـــــ حكاية حنا يعقوب» (الآداب/ المركز الثقافي العربي)، يبتكر ربيع جابر فكرة مدهشة يمكن تحميلها بوعود سردية قادرة على شدّ القارئ حتى نهاية الرواية، إلا أن ما يحدث هو العكس تقريباً. سرعان ما تفقد الفكرة وهجها وتتحول إلى مشكلة أو مهمّة ينبغي للمؤلف أن يجد لها حلّاً، بدلاً من أن تتطور وتحتشد بالتفاصيل والمنعطفات.
لكن ما هي هذه الفكرة؟
بعد أحداث سنة 1860 بين الدروز والمسيحيين في جبل لبنان، يعتقل الوالي العثماني 550 درزياً ويقرر نفيهم إلى بلغراد. يأخذ الروائي اللبناني هذه الواقعة التاريخية التي لا نعرف إن كانت حقيقية أو مختلقة، ويُحدث فجوةً ذكية فيها بجعل الوالي يعفو عن «سليمان» أحد الإخوة الخمسة في عائلة عز الدين بناءً على شفاعة من والدهم. هكذا، يضطر الجنود المسؤولون عن تسفير الدروز بالباخرة من مرفأ بيروت، إلى إيجاد بديل للأخ الناجي من النفي. ويكون حنا يعقوب بائع البيض المسيحي، هو الضحية. رغم أن نفي الأخير غير مقنع، إذْ ليس ضرورياً أن يكتمل عدد المنفيين لأن الوالي نفسه قد عفا عن أحدهم، يوافق القارئ على هذا الإجراء الروائي والقَدَري واعداً نفسه برواية ممتعة بعد بداية خاطفة ومشوِّقة كهذه. صاحب «الاعترافات» لا يفي بكل وعوده للقارئ الذي يظل يتساءل: أين هي حكاية حنا يعقوب إذا كان يواصل منفاه كأي درزي آخر، متنقلاً من حبس إلى آخر في بلاد الصرب والبوسنة والهرسك والبلغار، يمارس الأعمال الشاقة المطلوبة منهم: يشقّون طرقاً، يشيّدون جدراناً، يرمّمون أسواراً، ويعملون في قطاف المحاصيل، ويتناقص عددهم بسبب الظروف غير الإنسانية لأماكن سجنهم والأمراض السارية والمناخ القاسي، إضافة إلى تعرضهم للقصف العشوائي أثناء المعارك، وموت بعضهم أثناء نقلهم من مكان إلى آخر على أيدي قطّاع الطرق؟
حكاية المسيحي حنا يعقوب لا تختلف عن حكاية زملائه الدروز، باستثناء أنه ترك زوجة وابنة صغيرة، واعتناء «إخوته الأربعة» به بسبب ضعف بنيته مقارنة بقواهم الجسدية المكتسبة من العيش في الجبال... بل إن المؤلف نفسه غالباً ما يعاملهم على أنهم كتلة واحدة. لا حيوات شخصية متنوعة في متن الرواية التي تحظى بمزاج سردي عمومي يطارد التفاصيل التاريخية والجغرافيّة، أكثر من عنايته بخلق سياقات منفصلة لعدد من الشخصيات، أو سياق أكثر ثراءً لبائع البيض الذي ساقته الأقدار ليعيش باسم آخر وهويّة دينية أخرى. حتى فكرة البطولة الجماعية لا تمتلك وجاهة كافية هنا. نحن أمام مجموعة أو كتلة بشرية لا نعرف سوى أسماء عشرة منهم تقريباً. لا حكايات موازية لحكاية حنا يعقوب. الجميع يعيشون داخل سرد سياحي أو مَعَالمي إن جاز التعبير. يلجأ جابر إلى ملء الصفحات المخصصة لنقل السجناء من منطقة إلى أخرى بأسماء مدن وجسور وأنهار وقلاع. هناك محاولة لفتح كوىً تفصيلية في الزمن العمومي للرواية، لكن هذه المحاولات لا تشفي غليل القارئ، ولا تصنع حيثيات فردية كافية في الإيقاع الشامل لكتلة السجناء. أَضِفْ إلى ذلك أنّ بعض هذه المحاولات لا تبدو مقنعة، كما هي الحال في سجن أحد الأشقاء الأربعة سنة كاملة في بئر بسبب ضربه سجيناً آخر!؟ وتقديم حنا يعقوب لمحاكمة كان ممكناً أن تنتهي بقطع يده لأنه أكل بيضة واحدة ونام في قنّ الدجاج أثناء هربه من السجن...
الواقع أنّ حنا لم يهرب، بل وجد نفسه حراً بعد قصف متبادل أدى إلى دمار القلعة التي تضم السجناء واحتراقها. لكن قبل ذلك سيُقتل زملاؤه وإخوته الدروز الأربعة. أضعف الجميع وأكثرهم هزالاً سيكون الناجي الوحيد! لعل نجاته شرطٌ لاختتام الحكاية. إنه الوحيد الذي يحظى بتفاصيل واضحة وملموسة تركها وراءه في بيروت.
مثلما بدأت الرواية بحادث غير مقنع، تنتهي بحادث مماثل، وإن كانت نسبة حدوثه أكثر من الأول. بعد نجاته من المحاكمة الغرائبية، يُكمل حنا يعقوب فراره. يلتقي براع مقدوني. يقدم الراعي الصغير زوادته للسجين الذي طالت لحيته.
فكرة اللحية تنبثق فجأة كي تساعدنا على تصديق ما سيحدث. إذْ يظن الراعي أن حنا هو أحد القادمين للالتحاق بقافلة الحج التي ستنطلق من الميدان الرئيسي للمدينة. «اسمه «سليمان». ذاهب إلى مكة. لم يكن بحاجة إلى أكثر من كلمتين كي يأكل على نفقة السلطان، ويحظى بصحبة حجاج بيت الله الحرام، وينام دافئاً في الخانات العثمانية». الباقي يحدث بسلاسة. يغادر القافلة بعد وصولها إلى دمشق. «ومن هناك فشخة إلى جبلكم»، كما أخبره أحد السجناء في بداية منفاه. يُرشده أحدهم إلى محطّة العربات العاملة على خط دمشق ـــــ بيروت. بعد اثنتي عشرة سنة من العذاب والأهوال، وصل حنا يعقوب إلى بيته. «حضن زوجته وابنته وبكى. شهق وملأ رئتيه بالهواء».
بطريقة ما، تبدو رواية «دروز بلغراد»، دعسة ناقصة في مسيرة صاحب «أميركا» الذي بدأ مساره الأدبي بنصّ حاز جائزة مجلة «الناقد» سنة 1992، وأنجز 17 رواية خلال أقل من عقدين. جملته القصيرة والنضرة موجودة طبعاً، وكذلك مهارته الفائقة في إخضاع جسم الرواية لمونتاج ذكي يجعلنا نحسِّ بأننا نشاهد فيلماً سينمائياً. المشكلة أن كل ذلك يفتقر إلى حكاية مقنعة وجذابة مثل أغلب الحكايات التي أحببناها أكثر في أعماله الأخرى.