لم أتخلّ عن الطبعة الورقية رغم انتشار أعمالي إلكترونياً
أتصوّر أن «حياة الشعر» مرهونة في الأساس بكونه «شعر حياة»، فبقدرة النص الحيوي على النبض الطبيعي والحركة الحرة ـ دون أجهزة إعاشة وأسطوانات أوكسيجين وأطراف صناعية ـ تُقاس عافيته وخصوبته، ويتحدد عمره الحقيقي، ويمتد عمره الافتراضي خارج المكان والزمان. نحن نعيش عصراً رقمياً، هذه حقيقة، ولا يمكن أن تغيب تأثيرات وانعكاسات هذه «الرقمية» ـ كنمط حياة ـ عما يكتبه الشاعر الحقيقي اليوم، وإلا فإنه يكتب عن عصر آخر، ويعيش حياة أخرى، فوق كوكب آخر! والنشر الإلكتروني للشعر هو أحد ـ وليس كل ـ وجوه الاجتياح الرقمي للشاعر. والأهم بالتأكيد من اختيار الشاعر للرقمية كوعاء جديد للنشر، أن يكون ما في الوعاء جديداً معبراً عن معاناة الإنسان في العصر الرقمي الخانق.
أحدثُ دواويني حمل عنوان «الأعمال الكاملة لإنسان آلي». وهو بمثابة تجربة تهدف إلى فضح سوءات هذا العصر الغارق في «التسليع» والميكنة والتقنية، ومحاولة البحث عن الذات الإنسانية المفقودة، النابضة بحرارة ـ رغم كل شيء ـ تحت جليد الحياة الرقمية.
«دُوّنتْ هذه التجارب في غرفة مجهزة بالقرية الكونية، في الفترة من مطلع الألفية الثالثة، إلى نهاية عصر الورق»...، هكذا كتبتُ في بطن غلاف الديوان، الذي آثرتُ أن يصدر في طبعة ورقية، جنباً إلى جنب مع نشر المحتوى إلكترونياً في عدد من مواقع الإنترنت، وموقعي الشخصي.
العدد الأكبر من القراء والأصدقاء المبدعين والنقاد قد اطّلعوا على الديوان من خلال نسخته الإلكترونية، لكن صدور الديوان بأجزائه المتعددة في طبعته الورقية أمر مهم بالنسبة إلي، لأن الوسيط الورقي لا يزال قادراً على تطوير نفسه وتطويعها لاستيعاب «تشكلات» فنية جديدة تتمثل روح الحياة الرقمية، وهذا ما أردتُ إثباته من خلال الغلاف والإخراج الطباعي المغايرين تماماً للمألوف في الدواوين الورقية. في تصوري الكتاب الإلكتروني لن يحل تماماً محل الكتاب الورقي بالسرعة التي توقعها البعض، لكنه سيتجاور معه بالتأكيد لفترة قد تطول، والأهم من هذا التجاور، أن تأثير «الرقمية» كجوهر حياة سيتجه بقوة إلى الكتاب المطبوع نفسه، مضمونا وإخراجاً، كما حدث في «الأعمال الكاملة لإنسان آلي». وأنا هنا بالطبع أتحدث عن الكتب الإبداعية على وجه التحديد.
لقد أوضحتُ قبل قليل لماذا اخترتُ الوعاء الورقي جنبًا إلى جنب مع الوعاء الإلكتروني، أما عن أهمية الوعاء الإلكتروني، فمن المؤكد أن هذا الأسلوب من النشر هو الأنسب لشاعر مثلي يحيا في قرية كونية صغيرة، ويطمح ـ ببساطة ـ إلى أن يكون صوت نفسه، وصوت صديقه القارئ، صديقه الإنسان، في كل مكان. خصوصًا أن هموم البشر الملحة صارت تتعلق أكثر بمصيرهم المشترك وحتى بوجودهم ذاته.
ومما يثبت كيف أن النشر الإلكتروني لديواني قد جعله أكثر تشعباً وتأثيراً في القرية الكونية الصغيرة، أنه نشر ورقياً في القاهرة، ورغم ذلك فإن أهم الأقلام النقدية التي تناولته كانت في لبنان والمغرب والعراق والجزائر وقطر والبحرين والإمارات والكويت، وعدد من الدول الأوروبية، بل وهونغ كونغ، وبالطبع فإن الكتاب الورقي لم يكن له حضور هناك.
اخترتُ الوعاء الورقي جنباً إلى جنب مع الوعاء الإلكتروني