جواد الأسدي
مثل الكهنة التراجيديين، يحمل على كتفيه ثقل العالم. بنبرة مسرحي قادم من أروقة دوستويفسكي، وتفردات تاركوفسكي، يعلك النصوص ويومياته الدمشقية بمرارة خافتة. تهكّماته على المنصّات السياسية وعلى الانهيارات اليومية حارّة وصادقة، أقبل عليه وأدعوه إلى حضور بروفاتي أو عروضي. لكنّي أهابه وأخاف منه من كثرة ما هو حرّ ومركّب في رؤيته المعرفية.
عراقي حتى النخاع عندما كنت أحدثه عن الهمج الذين ذبحوا أخي في أبي غريب. ومسرحيّ يمدّ أصابع عقله الجمالي إلى قيعان النصوص، باعتراضات وميل وشهوة إلى فن أكثر ارتقاء. وحيد، صعب المعاشرة في أحيان، وحرّ يطلق الطفل الذي يسكنه ليتسلّق الجدران العليا للمدن، علّه يشرب ينابيعها وحسراتها وغبارها وهواءها المسمّم.
يحيل أفلامه الوثائقية بفرادة لتصير أبعد من تراكيب فيلمية، روائية. يقلب الصور والكائنات والطبيعة لتتحول بين يديه إلى عجينة، يطحنها بين أسنان وجعه.
يا إلهي لهذه الخسارة القاتلة. أن يحمل عمر أميرلاي (الصورة) على خشبة الموت إلى وحشة السكوت من دون دمشق روحه وبلا مقهى الروضة الذي ينتظر خطوات مجيئه. بلا أصدقائه القليلين ومحبّيه المحتشدين عند بوابة الحفرة. هل حقاً سيرمى هذا العقل الفذ إلى وحشة الطين والليل بلا نبيذ السينما؟
عندما رأيت صورته الرائعة الملامح في جريدة «الأخبار»، ظننت للوهلة الأولى أنّي أمام حوار لاهب مع مخرج طليعي. وقبيل قراءتي للحوار، تفرّست في الصورة. قلتُ في نفسي: كم أحبّ هذا الوجه، وهذه الملامح، والصوت ذا النبرة المسرحية. تذكرت ضحكاته. سيل من صور وركام من لحظات هجمت على رأسي، خصوصاً أنّي فوجئت قبل شهر بينما كنت قادماً من دمشق إلى بيروت، بصوته، وهو يهمس «جواد يا جواد، ماذا تفعل هنا، إلى أين أنت ذاهب؟». التفتّ فرأيت عمر مع أخيه في سيارة التاكسي التي أقلّتنا إلى بيروت روحه. كلّمني عن فيلمه الجديد الذي سينجزه عن إغراء وعن تفاصيل وضحكات وتعليقات. للأسف، عندما قرأت بداية المقال، صدمت بكلمة غياب، سكت، غياب؟! غياب ماذا؟ ثمّ فهمت بعدما قرأت كلّ الصفحة بأنّ السينمائي عمر أميرلاي، قد...
ضربت على رأسي، وقتها متُّ فعلاً، لم أصدّق، لا أريد أن أصدّق، كيف أصدّق، أين أنت الآن! عمر، لقد ذبحتني.